مودعاً إنتاجي لرحلة جديدة

من يعرفني أكثر من شهر من الزمن ربما بلغه بعضاً من شغفي (المزعج أحيانا) عن التعليم والتعليم الالكتروني بالتحديد، وربما سمع عن مشروع أسسته مع أروع كوكبة من المهندسين في العالم العربي، بل وربما في العالم اجمع.

لمن لا يعرف نسختي من قصة إنتاجي، فلقد فاتته وانتهت مرحلة مهمة منها اليوم بمغادرتي لإنتاجي كمدير تنفيذي وشريك مؤسس. سأروي البعض منها هنا لأجل العودة لها مستقبلاً ولمؤازرة البعض ممن قد يستفيد مما أصبنا وأخطأنا.

بدأ المشوار في سنة 2013 عندما اتفق مجموعة من المهندسين في شركة كنت أعمل بها آنذاك ان أهمية المساهمة في رفد المحتوى الرقمي العربي بشيء ذو قيمة. الهدف كان مساعدة شباب جيلنا بمهارات تمكنهم من اكتساب أي مهارات يحتاجونها لدخول سوق العمل بغض النظر عن مستوى دراستهم الأكاديمي بالإضافة الى كوننا نؤمن ان اللغة لا يجب ان تكون حاجز تمنع الناس عن الحصول على ما يرغبون به من حياة كريمة، تزامنت مع الربيع العربي الهمنا بطموح للارتقاء بأنفسنا.

كوننا جميعاً مهندسين مختصين في تكنولوجيات مثل ادارة الخوادم والبرمجيات باستخدام تكنولوجية من مايكروسوفت وغيرها، علمنا ان هناك طلب متزايد عليها في السوق وهناك فرصة جيدة لإطلاق خدمة يستفيد منها الكثيرين مثل CBTNuggets الامريكية الشهيرة او المحتوى العالمي الرائع الذي بنينا الجزء الأكبر من مهاراتنا على نتاجهم.

وفعلاً بدأنا التخطيط والتطبيق، فتغير المشروع ليشمل رعاية من الشركة، والذي انتهى الى استثمار بدأنا على اثره وضع موارد لإنتاج المحتوى بشكل ممنهج ووفق معايير دولية للتعليم الالكتروني والإنتاج الفني بأدوات وتقنيات تضاهي ما تستخدمها الشركات العربية والعالمية مثل MBC وغيرها التعليمية.

بعد انتاج مجموعة من الدورات لاحظنا كفريق مؤسس وجود فجوة كبيرة في السوق العربية لمنصة عالية الجودة، سهلة الاستخدام مصممة وفق معايير عالمية للتعليم الالكتروني تسمح لنا كمنتجين بنشر دوراتنا والحصول على مقابل مادي لها، بالإضافة الى التفاعل مع مستخدمينا بشكل يساعدهم على التعلم. وبعد التحقق من الموضوع، شرعنا في بناء ندرس.كوم.

بدأ المشروع بمبرمج واحد بدوام كامل، مع خبير تصميم تجربة المستخدم UX بالإضافة الى فريق من الهند للأشهر الأولى من الMVP وبعد اكتمال النسخة الأولى خلال حوالي ستة أشهر، ردة الفعل كانت رائعة بالرغم من كون المنتج بني باتباع منهجية بزق-لزق (عذراً للمصطلح لكنه اسمه رسمياً لدينا).

وبعد المعاناة التي واجهتنا مع فريق غير عربي لتطوير منتج يستهدف العالم العربي، استنتجنا اننا يجب عن نبني فريق داخلي عربي بالكامل قبل اللجوء الى فريق من الهند او باكستان او أي بلد آخر. وفعلاً قمنا بصرف الفريق الأصلي وقمت مع زميلي ناريك بدعم المنصة ومحاولة معالجة المشاكل لحوالي 6 أشهر من أصعب ما واجهته في حياتي، قمت وبمساعدة كل من أعرف ببناء فريق جديد من أروع ما يتمناه أي رجل.

وضعنا أساس التعيين الثقة والنزاهة بالإضافة الى إمكانية تجاوز المصاعب بشكل ابداعي وتعرض الجميع لحوالي 6 مقابلات تضمنت مقابلة مع أختي كمقابلة نهائية قبل التوقيع للتحقق ما اذا كان الشخص مناسب لتفادي تعييني شخص لمجرد حاجتي لشغل منصب. قمنا خلال تلك المدة بمقابلة ما لا يقل عن 20 شخص مختلف، وفي النهاية اعتمدنا على التوصية بشكل حصري، فلم نعين شخص الا من خلال توصية احد أعضاء الفريق، وكان افضل قرار على الاطلاق.

بدأت الرحلة بأخذ شكلها الحقيقي سنة 2015، حيث تشكل الفريق بشكل كامل وبعدد 5 (وانا من ضمنهم) باسم ندرس.كوم.

الدرس الأول: لا تحاول بناء منتج في سوق تحتاج بناءه قبل استقبال منتجك

عملنا جاهدين لحوالي سنتين والنصف حتى استنتجنا بما لا يقبل الشك ان السوق العربي لم يكن فيه ما يكفي من المحتوى عالي الجودة لرفد سوق عربي مدفوع بدون تسويق عدواني Aggressive Marketing Tactics والتي لم تكن تلائم المنطقة عموماً الا من خلال المنصات التخصصية كتلك التي تعنى بالبرمجة او الطبخ أو ما شابه ذلك والذي كان يدأ يأخذ منحى جدي من خلال قنوات يوتوب وانستاجرام وسنابشات تعليمية تقوم بتشكيل مجتمع من المتابعين والحصول على المال من خلال بيع محتوى خصوصي أو من خلال “رعاية” جهة معينة ترغب بتسويق خدماتها للجمهور المستهدف.

بشكل مختصر، كنا نحاول بناء السوق بشكل كامل بدلاً من بناء منتج. وهذا فيه مجموعة من المراحل التي تحتاج ظروف محددة جداً بدونها لا يمكن انجاز الموضوع، وبدون استثمار ضخم أولي تكون المهمة أشبه بالمستحيلة بدون مدة زمنية طويلة جداً.

بعد دراسة السوق وموقع ندرس.كوم ارتأينا تغيير مسار الشركة الى مجال استئجار البرمجيات كخدمة SaaS باستخدام تكنولوجيا ندرس.كوم الاصلية بعد تحويرها بشكل كبير جداً. لمن لا يعرف معنى ان تقوم بما يسمى Pivot بمنصة حية تنبض بالحياة بدون اغلاق المنصة الاصلية هي أقرب بمن يقوم باستبدال محركات الطائرة، وهي في الجو، محملة بالركاب، بدون دليل استخدام.

نجحنا في إعادة هيكلة المنصة بشكل كامل من الداخل الى الخارج، وبدأنا فعلاً رحلة جديدة أواخر سنة 2017 باسم انتاجي. لا ادعي اننا لم نخطأ بشكل فادح في العديد من المواضيع، بالرغم من النجاحات التي نفخر بها ايضاً في مشروع ندرس.كوم، لكننا كنا نرغب بترك اثر ووقع إيجابي على العالم العربي ايماناً منا بأننا ان لم نحل مشاكلنا بأيدينا فلن يعطف علينا أحد لمعالجتها.

تمكننا في فترة قصيرة جداً من وضع معايير عالية جداً لبناء المنتج، واستمرينا في تحسين طريقة التصميم والتنفيذ لدرجة أصبحنا نشخص في طرق التصميم والتنفيذ التقليدية المتبعة عالمياً قصوراً واضحاً وافقنا خلاله شركات عالمية في بناء وتنفيذ المنتجات، بالإضافة الى وصولنا بالمنتج لدرجة من البساطة والسهولة التي سمحت لنا بخدمة مؤسسات كانت ترغب بتعليم أكثر من مليون عربي لخلا 100 يوم بنجاح وبفريق دعم محدود بالإضافة الى العديد من النجاحات التي لا زال فريق يسطر منها الكثير بشكل مستمر.

خلال هذه المدة رأيت نفسي اعاني صحياً من العديد من المشاكل الناتجة عن اهمالي لصحتي النفسية والجسدية، تضمنت كآبة وصلت الى كآبة حادة في بعض المراحل، بالإضافة الى إدمان العمل لدرجة بدأت معها العمل لما لا يقل عن 16 ساعة في اليوم.

خلالها خضعت لعدة مشاكل صحية تضمنت ذهاب وعودة قرحة في المعدة، التهاب جلدي يسمى بالصدفية ناتج عن القلق والتوتر المستمر، وبالرغم من مداومة الصلاة والرياضة، حدث وشلت نصف وجهي اليمين الذي لا زلت لم اشفى منه تماماً نتيجة خلل عظمي\عصبي ولادي اسرع في تاثيره عاداتي في العمل غير المدروسة.

المشكلة في العمل كمؤسس فردي بدون مؤسس شريك يرفع عنك حمل المسؤولية هي انك تشعر ان تغرق وفي كل مرة ليس هناك من تستنجده غير الله (وهو حسبي عليه أتوكل وهو رب العرش العظيم) والاعتماد على ما لديك من أدوات، بعضها يعمل بسبب الدعم الهائل الذي يقدمه لك الأهل والأصدقاء المخلصين الايجابيين. وبعض ادواتك الشخصية مثل الطاقة والابداع والمثابرة والجلد تصبح نقمة أحيانا تمنعك من معرفة ان طاقة الانسان محدودة وان الشريك المؤسس لا يعني سوبرمان، ولا يجب عليك كمؤسس التضحية بأكثر من وقتك لتحقيق اهدافك.

يمر الانسان خلال مغامرات عمله بمشاكل شخصية لا انكر تعرضي للبعض منها. لا استثني منها النفسي والعاطفي والجسدي افقدتني توازني بشكل كامل، ولولا وجود فريق مهني ملتزم ومؤمن بما نعلمه لم نكن لنتمكن من المتابعة الى الان، من ناريك كركيان وهشام صهريج وزاهر بلار ومحمد توتنجي درويش وروحان جليل وبشار غضنفر في الجانب التقني، الى بوغوص اورفليان الذي هو اقرب لقلب الشركة النابض ومحمد محمود علي ورحيق الجنابي ومصعب الفخري من الفريق المعني بالجوانب غير البرمجية الذين جميعهم شارك في بناء المنتجات المختلفة التي عملنا عليها، والتي بمجملها شكلت العلامة التجارية ولبوا وعودنا للمؤسسات والافراد التي قمنا ونقوم على خدمتها.

مررنا بالكثير من الأشخاص الآخرين الذين ساهموا بأي نجاح حققناه بشكل هائل ابتداءاً بأول مستثمر في الشركة احمد شياطي والذي بدونه لم تكن لتكون إنتاجي على ما هي عليه اليوم. مروراً بجميع من ساهم من شركائنا الذين كانوا ولا يزالون يقومون بأفضل ما يمكن تصوره وأكثر مما يعدون به في كل تفاعل وتحدي ونجاح.

لم اتعافى تماماً من آثار الجهد المضني الذي قمنا خلاله ببناء ما تم بناءه في السنوات الأخيرة، ولا زلت أحاول فهم ما مررت وامر به يومياً بالتأمل تارة، وبالقراءة الموجهة تارةً أخرى، ولكن الشيء الوحيد الذي يمكنني اعتباره سفينة النجاة، بعد توفيق الله ومنته، الأهل والأصدقاء ابتداءاً بوالدتي وأخوتي وزوجتي وأخوتي مروراً بأولادي واصدقائي الذين كانوا دائماً موجودين لتخفيف الحمل ومشاركة الهموم والغموم وتحمل جفائي وانعزالي.

لا أتمنى لأي شخص المرور بتجربة تتضمن بالفشل إذا كان النجاح ممكن بدونه، كما لا أتمنى الألم لأي انسان مهما كان، وأتمنى ان يتحلى أي مؤسس بالشجاعة المطلوبة لطلب المساعدة ممن هم في مكان يسمح لهم تقديمه لهم. نعم بعض طلباتكم ستواجه بالرفض، وهذا أمر مره علقم، وسيقوم القليل ممن تثق بهم بغدرك وربما تتعرض لبعض محاولات الاذلال والابتزاز، لكنك ستتعرض له مرة، لأن المؤمن لا يلدغ من جحره مرتين.

بعد النجاحات الأخيرة والنمو الذي بعد جائحة كورونا اصبح من الواضح ان ثماني سنوات اخذت مني طاقة وجهد ارى الان افضل وقت لتسليم إنتاجي لمن هم اكفأ مني في قيادتها لمستقبل فيه التعليم الالكتروني مزهراً ولا يزال في أول نموه المتوقع ان يبلغ مستوى غير مسبوق عربياً وعالمياً. اعتذر لزملائي وشركائنا عن اي ازعاج قد تسببه المرحلة الانتقالية لكننا سنعمل جهدنا لجعلها اسلس ما يمكن.

أفضل درس تعلمته ان الجأ لمن هم في مكان أفضل مني خبرة وتجربة، وأكرمني الله ببعض دررهم، تواصلت معهم لمساعدتي على تجاوز ما لا يعلمه الا الله وجنوده ومما شاء، فلم يفشوا سراً ولم يبخلوا بعلم، اوسعوا لي صدورهم ونصحوا لي بما يرضونه لأنفسهم. لا افشل الله لهم سعي يرضاه ويرضونه، ولا اعادهم لطريق هجروه لوجهه ووفقني وأياهم لما فيه حسن السيرة والخاتمة.

ابدأ اليوم البحث عن مغامرة جديدة ان شاء الله، وبالرغم من وجود بعض الافكار التي كنت احلم بمتابعتها من مدة يعلمها المقربون تتضمن الكتابة والكثير الكثير من القراءة، اتمنى ان يعذرني من قصرت في حقهم على كل خطأ وسوء تقديرلم اتمكن من أن اكون عند حسن ظنهم بي، عسى ان اتمكن من خدمتهم بشكل أفضل في المرة القادمة بإذن الله.

--

--

Ahmad AlShagraاحمد الشكرة

انسان، مهتم بالواقع وتحسينه بالتعليم. مسلم، عربي، عراقي